اضراب المخابز : الشجرة التي تخفي غابة فساد منظومة الدعم ‏

الاضراب العام في قطاع المخابز بثلاثة أيام الذي انطلق اليوم يحمل مطالب قطاعية عاجلة، ولكنه يعكس الأزمة الشاملة لمنظومة الدعم في البلاد والحاجة الماسة لاصلاحات هيكلية جوهرية في تلك المنظومة عوض مجرد التفكير في اجراءات شكلية جزئية قد تطفئ حرائق صغيرة ولكن تزيد في تعميق الازمة الشاملة. 

الخبز هو المادة الأساسية الرئيسية التي تحظى بالدعم في البلاد. ولكن منظومة دعم الخبز تفشت فيها كل أنواع التلاعب والتحيل والفساد والاستغلال وسوء التصرف في جميع المستويات. وأصبح ذلك الدعم يلقي بثقله على الاقتصاد الوطني بشكل متزايد دون أن يساهم في تحسين القدرة الشرائية للمواطنين. 

ويقدر الاستهلاك الوطني من الخبز المدعم بمليار و324 مليون خبزة كبيرة (من وزن 400 غ) سنويا أي ما يعادل 3,63 مليون خبرة يوميا. بالاضافة الى مليار و247 مليون باقات سنويا (من وزن 220 غ) أي ما يعادل 3,42 مليون باقات يوميا حسب أرقام وزارة التجارة لسنة 2018. كما يقدر الاستهلاك الفردي لمادة الخبز ب72 كغ سنويا في 2018.

كما يقدر عدد المخابز الناشطة في البلاد بما يقارب 4000 مخبزة بعد أن كان العدد في حدود 3038 في اكتوبر 2014 و2183 في 2008 (حسب تقرير دائرة المحاسبات عدد 29).

في 2010 كانت الدولة ترصد 730 مليون دينار لدعم المواد الأساسية منها 630 مليون دينار مخصصة للحبوب والعجين الغذائي. وتضاعفت تلك الارقام ثلاث مرات في سنة 2021 (2400 مليون دينار منها 1890 مليون دينار للحبوب والعجين). وهي زيادة أعلى بكثير من انعكاسات زيادة أسعار الحبوب في السوق الدولية ومن تدهور سعر صرف الدينار.

التجاوزات الحاصلة في منظومة الدعم يشترك فيها كل المتدخلون في المنظومة دون استثناء: ديوان الحبوب الذي يوفر الحاجيات الوطنية من القمح اللين عبر الانتاج المحلي (قرابة 5٪؜) أو التوريد (95٪؜)، والمطاحن التي تتزود بالقمح اللين من الديوان وتحوله الى فارينة (وعددها 21 مطحنة)، ثم المخابز التي تتزود من المطاحن بنظام الحصص وبأسعار احالة منخفضة. وتنقسم المخابز الى صنفين : صنف "أ" تختص في صنع الخبز المدعم من الحجم الكبير من الفارينة المدعمة من نوع PS، ويحجر عليها انتاج وبيع المرطبات والاصناف الاخرى من الخبز. وصنف "ج" وتختص في انتاج "الباقات" من الفارينة المدعمة من نوع PS بثمن محدد، مع السماح لها بانتاج وبيع المرطبات والخبز الرفيع باستخدام الفارينة الرفيعة PS-7 دون تحديد سقف. 

التجاوزات في هذه المنظومة المعقدة لا تحصى ولا تعد في ظل غياب رقابة جدية وردع صارم. وهو ما أدى الى خلق شبكات تلاعب وتحيل كبرى ولوبيات نافذة ومجموعات مصلحة تخترق كل الهياكل. هذه التجاوزات أكدتها عديد الأعمال الرقابية وخاصة تقرير دائرة المحاسبات عدد 29 الذي ذكر حالات عديدة لتجاوزات خطيرة جدا وأكد على ضعف تعاطي مصالح وزارة التجارة مع تلك المخالفات. من مثل تسجيل 10 مخالفات خطيرة في شأن مطحنة دون أن تتعرض لاجراءات عقابية.

من الطبيعي أن يدافع أصحاب المخابز على مصالحهم وعلى مستحقاتهم، خاصة في ظل ارتفاع الاجور وأسعار الماء والكهرباء وغيرها. ولكن من الواجب على القطاع أن يطهر نفسه من السلوكيات المنحرفة ومن المتلاعبين بالمال العام والمتحيلين على منظومة الدعم المستخلصة من ضرائب التونسيين دون أن تعود عليهم بالفائدة. وبعض الذين يتصدرون نضالات أصحاب المخابز متورطون للنخاع في تلك السلوكيات الاجرامية حاشى الشرفاء وهم الاغلبية.

اليوم البلاد كلها في مأزق لا تنفع معه الحلول الترقيعية ولا المعالجات القطاعية.  يكفي من الارتجال والاعتباط ومن الخوف غير المبرر من الاصلاح.

لا معنى لبقاء منظومة الدعم بشكلها الحالي لأنها أصبحت عبء ليس فقط على الدولة بل على المواطن دافع الضرائب.

لا معنى لبقاء سعر الباقات في مستوى أسعار سنة 2008 أي ب190 مليم والحال أن الثمن المعتمد في كامل المخابز تقريبا هو 200 مليم (وهو ما يعني ضياع أكثر من 12 مليون دينار سنويا بسبب ال10 مليمات التي لا يكاد يطلبها احد).

لا معنى لتواصل تغاضي الدولة على التجاوزات المتكررة وعلى المسالك الموازية لتوزيع الفارينة المدعمة وعلى شبكات التلاعب والتحيل، وتعمد غض الطرف وعدم تطبيق القانون على المتنفذين مع السعي لتحميل الفاتورة على المواطن البسيط. 

لا معنى لحلول فيها تحايل على ذكاء التونسيين ومعيشتهم من نوع التقليص في وزن الخبز والباقات مع الابقاء على الثمن، كما كانت تفعل الانظمة الدكتاتورية الخائفة من شعبها.

المطلوب اليوم رؤية واضحة وشاملة وجرأة ووضع لكل المعطيات على الطاولة بكل شفافية وفتح حوار وطني مسؤول حول الاصلاحات الجوهرية لمنظومة الدعم بأكملها.

الاصلاح الجذري هو الحل.

للاطلاع على تقرير دائرة المحاسبات عدد 29 حول منظومة دعم المواد الأساسية: 
http://www.courdescomptes.nat.tn/upload/rapport29/I-01.pdf

إرسال تعليق

أحدث أقدم